Saturday, December 3, 2016

أحبك واقفة. لماذا تريدني أن أحبك بتداعي؟

أريد أن اكتب رسالة إلى الفضائيين، أو إليك. لايهم. كلاهمها مجرد حلم.
اكتب "أحبك يوم الأحد، الساعة ثنتين ونص بعد أربع محاضرات وآخر وجبة أكلتها ريوق أمس" هل هذا مُجدي؟
رأسي يؤلمني، الأفكار تتوالد كبكتيريا وجدت صحن بتري ببيئة مناسبة. هل رأسي يتعفن؟ مخي ظلام والدم رطب ودافىء. بيئة العفن المناسبة؛ رأسي جيفة.
تبعث الأسئلة من مرقدها، بنفخة بوق "لماذا؟" : لماذا اخترتني؟ لماذا نحن مخيرون؟ لماذا لا اكتب الرسائل إلا بالقلم الأحمر؟ لماذا رسائلي لاتصل -أو لنكن دقيقين- لماذا تتجاهل رسائلي؟
الإجابة واحدة لاتتغير كالموت:  لا أعرف.
مين يعرف؟ "آسفة، لاأعرف". رأسي يضع هذا الجواب الآلي لكل ماهو خارج إمكانياته، أنت خارج إمكانياتي ولاتدركك أبصاري، أدرِكني.
لا أريد أن أتسوّل الحب، أريد أن اختطفك من الأيام أود أن أسرق قلبك أخبأه في صندوقي الذهبي وابتلع المفتاح كما في أفلام الكرتون. أريد أن آخذك بخيلائي وما استطعت من قوة ورباط الخيل. لكنك لاتريد، تريدني أن أركع، أنا لا أخضع. أحبك واقفة لماذا تريدني أن أحبك بتداعي؟

Friday, August 26, 2016

"مرحبا، مضى وقت طويل".


مرحبا، مضى وقت طويل. متى كانت آخر مرة اقترفت فيها الكتابة؟ قبل ستة أشهر أم ثمانية؟ أوه! لايبدو أنه أمرا مهما.
الفتى الذي يختبىء خلف اسم تنكري يعود من جديد، بالمناسبة لعبتي المفضلّة هي الاستغماية. ماذا عنك؟
تقنيا، اكتب الآن لأنني شربت أكثر من ستة أكواب من الشاي والآن عقلي نشط ومتحفز. عمليا اكتب حتى اتعب فأنام أو ربما لأنني اشتقت أن يظهر اسمي على صفحة تويتر للمدونات العمانية  وبكل طفولية هذا يشبه شعور أن يظهر اسمي متصدرا مانشيت جرائد صباح الغد. أحتفي بذلك بيني وبين رأسي أحيي نفسي ثم أعود لاستكمال يومي.
هل لاحظتم أن فعل "كتب" قريب من الفعل "اكتئب"، لعبة الحروف المتشابهة مرة أخرى، و الحرف الذي يخرج من المنافسة هو الهمزة على نبرة وهمزة الوصل وأنا أكره الهمزات بالمناسبة .
مو علوم موخبار؟
في الفترة الماضية حصلت أشياء رهيبة جدا، توصلت لشيئين مهمين أنا لا أصلح للكتابة، هذا الفعل لايشبهني. وكما تعلمون كانت هناك الكثير من المسابقات التي تخص الكتابة تصلني عبر البريد أو عبر حساب تويتر ولكن عقلي أفلس أنا حتى لا أجد ما أتكلم به. والمفاجأة شاركت على حين غرّة في إحدى المسابقات وحصلت على المركز الأول (تيرا را را) وثم ماذا؟ خلف الكواليس،  كان هناك مشتركين فقط أحدهما أفضل الأسوأ الا وهو أنا.
والشيئ الخر أن الكتابة لا تؤكل عيش ، ولكن تمنحك قلبا سليما بعد أن تتقيأ ما في جوفك، من باب المناصفة يعني.
نورّت أدري، النساء الحالمات اللواتي يحلمن برجل شاعر يكتب قصائد غزلية لعينيها المتقدتين وأجفانها المائلة، هل تعلمين أنه قد فعلها قبلك أيضا؟ هو يكتب للمرأة التي في خياله وهذا شيء لايفترض به أن يسعدك لأنه متذوق "عام" للجمال. وإلا كما ترين فإن عينيك ليست متقدتين حتى.
الكتابة فعل سيء. عدا أني أكتب في غرفة مظلمة بدون الحاجة إلى النظر إلى الكيبورد ( والجائزة على المركز المزيف كما واضح أعلاه).
اكتب لكم اليوم لأنني لم أمت ولأن ستة أكواب شاي وبطاطس ربيان ليستا وجبة رائعة بصراحة.

Friday, March 4, 2016

الأميرة واللص


"عند آذان العصر مباشرة"، هكذا كان موعدنا تماما. نتحيّن وقت خروج أبوَينا للصلاة وانغطاط الأمهات في نوم الظهيرة اللذيذ بعد صباح مضن مع عشرة أطفال برغبات متبانية وزوج يزمجر إذا ما عاد والغداء لم يجهز بعد. كنت قد انغمست طويلا في كتاب "حول العالم في 200 يوم" لأنيس منصور والذي سرقته (إلى جانب خردوات أخرى، من شقة صديقك المصري) كنت تتعلّل بأنه "يهديني لأنه بيسافر خلاص". وكنت أعلم إنك كاذب لأن علبة الزعتر وأقلام التلوين وهذا الكتاب لايشكل فارقا في وزن الحقيبة ولأن هداياه بدأت تتزايد بالرغم من أن علاقتكما كانت لاتعلو على أنك تستخدمه لحل واجباتك المدرسية إذ أنه يسكن بيت والدك الإيجار. أخذت الكتاب منك لأنك "مش بتاع الحركات دي" رافعا أنفك بسبابتك اليمين وشادا عينيك ببنصر وسبابة اليد اليسار؛ مقلدا "محمود المصري" كما تعارفنا عليه، وألصق وطنه كقبيلة له رغم أنه لا محمود غيره. أخذني الكتاب إلى عوالم لم أكن أحلم بها وسرق أنيس منصور كل الأضواء النجومية التي كنت قد منحتها لكذباتك عن بطولاتك الخارقة في تغلبك على "شلة" أثناء مشاجراتك المتعددة والأصدقاء الوهميين الذين رغم قصصهم والتي توحي بأنك لاتغادرهم أبدا، إلا أنك نادرا ما كنت أراك متأبطا صديق.

في ساعاتنا المضنية، بدأت أتشدق عليك بمعلوماتي الجغرافية وثقافتي الواسعة ، دائما ابدأ فقرة التفاخر بـ "تخيّل بسّ!" لتباغتني بعد أن مللت حركتي بـ "مابغى أتخيل، سكتي". لم أكن أسكت بطبيعة الحال وكنت أسهب –كاذبة- في "تبهير" التفاصيل على حد تعبيرك لتغدو أكثر إبهارا لطفلين لم يتجاوزا حدود قريتهما النائية إلا لماما إما لشراء حاجات العيد أو زيارة "الدختر".

كنت تصلح عجلة دراجتك الهوائية (ربما سرقتها؟) قلت لك في خضم استعراضي لمعلوماتي ونكاية بك، "تخيل بس! أنيس منصور ما يحب بهارات الهند. أنا دايما على الغداء أحط داغوص حار. يوم أشتغل بسافر الهند وباكل من أكلهم وبشل معي داغوص عشان أزيده بعد!". كنت أعرف أن بيتكم لا يضع البهارات في طعامه بسبب أبوك الذي تضغط شحومه على قلبه فتهدده بالموت إن لم يمتنع عن الملح والتوابل. رمقتني بتلك النظرة، التي تسبق مشروع سرقاتك المتسلسل، خبث تشوبه براءة. قلت دون أن تنظر لعيني " وليش تنتظري لين تشتغلي؟ ترا شيء مطعم يسوي أكل حااار وأتحداك تقدري تاكليه". رددت ويدي على خصري" والله أكله كله. حتى جرب وجيبلي منه". تركت تصليح عجلتك هذه المرة، ورفعت عيناك، لتلتقي تماما بعيني، وأردفت مصمما " إذا تبغي جيبي ثمان مية وبوديك باكر بالسيكل"

شهقت وتحولت النظرة المتحدية إلى نظرة لاتصدق جنون الذي أمامها قلت مذعورة وأنا التي أوهمت أمي أنني أنعم بنومة الظهيرة" يااا غبي، أمي مابتخليني، هي قالت أصلا:" إذا عيني شافتك مع خلّود ياويلك".  "وياويلك" بلغة الأمهات أشد فتكا من المسدسّات التي نراها في الأفلام، فهذا يعني إزاحة الستار عن الفضائح التي كانت مخبأة عن الأب، ويعني أن أخطائك لن تنسى أبد الدهر، ويعني أن الجارات سيساهمن في ردعك وازدراءك متى تطلّب الأمر.

وهذا كله لم يثنيك، بل ورددت مقلدا صوتي في الحديث" ياااغبية أمك ما بتعرف، المطعم يفتح عند أذآن العصر، أبوك بيروح يصلي وأمك نايمة، بناخذ سمبوسة ومال بطاطس وبنرجع، خوااافة". وافقت لإثبات أني عكس السبّة الأخيرة ولأن غيمة نبتت على رأسي وتخيلتني أنيس منصور، حاملا حقيبته –التي ما فتئ يغيرها- منتقلا من بلد إلى آخر، ممتدحا هذا الطعام ومنتقدا للآخر.

في ذلك المساء، بدأت أحس بأن روحي غدت خفيفة، وغيمتي سقتها مخليتي الواسعة لتغدو أكبر فأكبر. أرشدني خالد- محترف الكذب والسرقات- بأن أخبر والدي أن معلمة الفنية قد طلبت منّا ريال حتى تشتري لنا أدوات المشروع، "والميتين؟" سألتك محتارة لأنك قد أمرتني سابقا بإحضا ثمانمئة بيسة، قلت مبتسما " للسوّاق". دائما تعرف من أين تؤكل الكتف ودائما كنت أعرف إنك كاذب، لكنني أصدقك.

خبأت الريال بالطريقة نفسها التي تخبئ بها جدتي نقودها، ربطتّه بحافة طرف شيلتي المدرسيّة حتى يغدو أمام عيني طول النهار. بالرغم من أنني صرت أضحوكة لبنات المدرسة واللقب الجديد الذي استحدثنه لي "حبّوة" إلا أنني كنت أنظر إليهن كمن على حافة الإنتحار، لا يأبه لشيء طالما أن ما يرتجيه سوف يحدث بعد سويعات قليلة.

انتظرت الأذان هذه المرة لأتسلل كالعادة من مخدعي بعد أن تأكدت أن والدي قد غادر المنزل للصلاة والبقية يغطون في نومهم، وبدون أن يلحظني أحد، تسلقّت خِفية جدارنا الملاصق لبيتكم- لما في فتح باب البيت من مخاطرة كبيرة، المزلاج الصدئ أولها- لأرمي نفسي في السكة حيث كان لقاءنا الدائم. وجدتك هناك محضرا دراجتك بصوتها الذي يشبه الزعيق.

بدون أن أنبس ببنت شفة، تسلقت المقعد الخلفي لدراجتك بعد أن سلمتّك الريال، وقلت بهمس متوسّل:" خلّود ما نطوّل وعّد؟". حدجتني ناهرا " إذا بتجلسي طول الطريق تلعي كذا، نزلي من تو". خفت لأول مرة من غضبك، أو ربما لأنك فقأت غيمتي المتحمسة بصوتك الذي بدأت تظهر عليه خشونة مزعجة وقميص ينفث برائحة العرق الصبياني. تقبضت بخصرك بعد أن سمحت لدمعة واحدة أن تسقط فيتلقفها الهواء.
كان المكان بعيدا جدا، أو هكذا بدا لي لمّا تخيلت أن يعود أبي من الصلاة وتستيقظ أمي وأخوتي فلا يجدوني، فيستغيث أبي بالشرطة ورجال الحي ليبحثوا عنّا، فيكتشفون أن خالدا أيضا غير موجود، فيعتقدون ،أسوة بالأفلام، أننا هربنا لنعيش قصة حبنا معًا بعد أن رفض والدي تزويجنا.
 لكنك كعادتك في إزعاج الآخرين، تمّر مهرولا على صخرة لترتفع الدراجة مؤذنة بسقوطنا لولا خبرتك في القيادة. تزعجني رائحة قميصك الملاصق، أشتمك وأحدث نفسي" من تبغى تتزوج حرامي ما يتسبّح؟ أصلا أنا حتى صف السابع ما وصلت". وهو الصف الذي انتشر في قريتنا الإيذان ببدء الفتيات بالانسلال من مقاعد الدراسة إلى أعشاش الزوجية.
ومرة أخرى، تعمدت الضغط على جرس دراجتك المزعج محتفلا بوصولنا إلى المكان الضيق الذي أقرب إلى أن يكون ملجأ للهنود الفارين من أربابهم على أن يكون "مطعم".

قلت بصوت الرجل الواثق " أنتظري هنا، تو بجي" كان المكان يعج بالهنود والرجال الكثيرين الذين حذرتني أمي مرارا من أن أتفرد بهم وألا ألبي لهم أي دعوة مهما بدت بريئة، تشبثت بقميصك الذي كنت أشتم رائحته قبل قليل وقلت" أخاف بجي معك". ربما قد بدأ خوفي لك حقيقيا فوافقت دون أن تناقش أو ربما كنت قد ندمت على توبيخك القاسي لي في مطلع الرحلة فوجدتها (كعادتك في استغلال الفرص لصالحك) فرصة من أجل أن أغفرلك.

صحبتني إلى الغرفة الرئيسية حيث الهندي العجوز والذي أكتفى بقميص لايغطي كتفيه وإزار يشبه كثيرا الذي يلبسه والدي تحت ثيابه. ازدريت أن آكل من يده إلا أن لعابي قد سآل حيث فاحت رائحة التوابل المقلية في الزيت. وجدت أن أغلب الطعام الهندي يتكون  من بطاطا غالبا وبهارات وطحين، اخترنا سمبوستي بطاطس منتفختان، وشيء عرفت لاحقا أن يشبه الفلافل إلا أنه يحتوي بدلا من الفول بطاطس مهروسة مغطاة بلحم أو خضار حسب الطلب، طلبنا واحدة خضرة وواحدة لحم (على أن يأكل كل منا النصف) ليغدو حسابنا بأربعمية بيسة حدجتك بنظرة مستغربة لأنه بدا واضحا أنك زبون دائم لدي سامير الهندي. ليرد اللص المتمرد الذي بداخلك " أنا قايل إنه الباقي للسواق، يعني أنا".

تنبهت إلى مرور عدد من السيارات مما يعني أن الصلاة قد انتهت، صرخت بعد أن طفر سيل من الدموع هذه المرة" خلوود رجعوا من الصلاة يلا نرووح". دقائق خلتها أقل من طريق الذهاب وصوت الكيس يخشخش في يدي حتى وصلنا إلى السكة التي إنطلقنا منها.

يدك متسخة من تراب الأرض التي كنت تحفرها قبل مجيئ وأثر الزيت الأسود الذي طبع في يدك إثر عمليات إصلاحك لدراجتك، أنت تمسك "مال بطاطس" لتقسمها قسمين، لنذوق نتاج مشاريعنا الخفية لأول مرة ، لكن فجأة يتبادر إلى أذنينا الصوت المزمجر، حاملا مكنسة التنظيف.

Thursday, February 18, 2016

حسيس الوق (2)


 ومن عاداته أيضا - التي تفرضها عليه مكانته الإجتماعية-  تربية الأيتام والفقراء مقابل خدماتهم،  فهناك من يشتغل صبّي يصب القهوة لضيوفه ويقرب لهم الطعام والبقية يعملون بيادير في مزارعه الكثيرة ويقضون حوائج الشيخ وأقربهم فقط يكون ساعده الأيمن وبئر اسراره. رزق أبي بعشر بنات وولدين، مات خمسة منهم ليبقى له سبع بنات يعايره بهن الأعداء وأولئك الذين يريدون أن يقدموا بناتهم قرابين للشيخ لعلها تكون المبشرة بالشيخ الجديد.

 أمي هي آخر زوجات أبي الأربع والمدللة الأثيرة التي تثير غيرة بقية نساءه, وأنا بدوري ابنتها الوحيدة بعد ولدين غيبتهما الحمّى التي لم يردعها اللعاب الذي نفثه المطوع سهيل ولا الحجاب الذي طوّق به رقبتهما. فآتى ملك الموت على حين غرّة ليخطف قطعتين من قلب أبي وأمله في ابن يحمل اسمه بعد موته.

كان عضيد أبي التجاري و أحد أكبر أثرياء الحارة. فقد كان يملك مولدا كهربائيا يمّد أغلب بيوت مترفي القرية بالكهرباء لتنار منازلهم ليلا بالمصابيح الكهربائية بدلا من الفنر. بل ووصل الثراء إلى حد امتلاك صندوق بشاشة زجاجية يدعى التلفاز يطوف بنا إلى العالم فنرى أخبار حرب مصر والانتصارات العربية الساحقة التي يتبعها تكبير أبي والجموع الملتفة حول الشاشة.

ونظرا لشدة طلب الناس وتوافدهم على منزل العم- المطوّع سهيل،  خصص التلفاز ليكون نهارا للنساء والأطفال وفي الليل  يجتمع كبار رجالات الحارة ومترفيها متحلقين حول هذه الشاشة. ليغدو بيته متنفسا ثان –بعد مجلس أبي- لكل أفراد الحارة.

بلغ العم سهيل من الجاه والثراء مبلغا كبيرا  وكان منفتحا على العالم نظرا لسفراته المتعددة لجلب البضائع،  فكان أول من أرسل ابنه إلى المدرسة الوحيدة في المدينة التي تبعد أميالا كثيرة عنّا. حيث يصورون لنا مباني الطوب التي لا يهدمها السيل ونساء خرجن من بيوتهن إلى المدارس ورجالا حلقوا اللحى واستبدلوا الغترة والعصا بكمة تطوق رؤوسهم وأقلام يحملونها في أيديهم ويعلقونها في جيوبهم.

منذ أن كنت في العاشرة  قرر أبي والعم سهيل – في سبيل توطيد العلاقات التجارية- أن يزوجوني لمحمد أكبر أبناء العم سهيل والذي يكبرني بخمس سنين. وحيث أن البنت لا تمكث في بيت أبيها إلا لعلّة فيها لأن " الحرمة حالها[1] الستر" كما يعلل الآباء تزويج بناتهم ما دون الثانية عشر أحيانا ( تخلصا من أعباء الصرف عليها وسترا لها ولأسرتها) غضب أبي غضبا شديدا بقرار محمد – بمباركه أبيه- بإكمال الدراسة في الكويت  . فكان الأمر عصيّا على والدي إذ أن إكمال محمد لدراسته في الخارج يعني أن أمكث عنده سنين طويلة بلا زوج مما يتيح للألسن التكلم على بنت الشيخ ومن ناحية أخرى فكثيرا ما تغير الحواضر والدول الخارجية ذوق الأبناء فيقلبون لبنات قريتهم ظهر المجن وغالبا ما يأتون بزوجة جديدة من البلد الذي سافروا إليه أصلا. وإذا غضب الشيخ هذا يعني أن عائلة أكبر تاجر في القرية مهددة بإزدراء حاشية الشيخ وكل أتباعه. فما كان من العم سهيل إلا المسارعة بإرضاء أبي وإيجاد حلا وسط.
تمخضّت المشاورات العديدة عن عدة قرارت من أهمها – إلى جانب بقاء العلاقات التجارية كما هي- أن يتم تزويجي من محمد في الصيف الذي يسبق سفره إلى الكويت سدا للألسن وضمانا بعدم إمكانية التراجع في السنتين التي سيقضيها هناك.


[1] كلمة محلية تعني :"لها".

Tuesday, February 16, 2016

قلم عقيم

تتماهى الأشياء أمام عيني،تتراءى لي رسالة سارة المُختصرة والتي لاتشي بعلاقتنا السطحية:"إذا ما في أحد قد قلك، ترا كتابتك حلوة" فتخبو روحي، أراجع الإطراء الضمني الذي صيرنّي مدعاة غيرة الزملاء إذ حال بين المحرّرة وبين مقالاتي فتضعها كما كتبتها دون تعديل-كما تفعل مع بقيّة الزملاء ولا أُشفى.
نّص كامل غير مبتور، صديقة (في الحقيقة هناك أكثر من واحدة) يروقها أن ارسل لها آخر ما نشرت لتزودنّي بانطباعات صديقاتها الأخريات، لكننّي - يا إلهي- اُحاوِل، كسيدّة على مشارف الأربعين لاتكّف عن زيارات العيادات النسائية؛ طمعًا في كلمة ماما.
حروفي كأغاني الفلاحين، تسير في الفضاء، تشي بالتعب الجماعي. حروفي آهات منمقّة.
اصر على أسناني أقول لرأسي "سيكون مثاليا" أقضي أسبوعين في كتابته، أجده مهترئا بمواطن جمال تكاد تكون معدومة.
لماذا إن كنت ستنزعها منّي، قد منحتني يا إلهي مِنحة الكتابة؟
يدي ستصدأ يُنهكها الضجر، رأسي محشو بجمل تسبح في فضاءه، أريد أن اكتب! كما ادعّت العجوز الآم المخاض علهّا تنجح فتلد، رأسي ممتلىء وبطنها خاوٍ.

Monday, February 15, 2016

حسيس الورق (1)

عشر ضربات يزرّق لها جلدي وجلَدي هي الجزاء الذي أناله بعد أي تلكؤ في ترديد سورة "عمّا" التي نرددها أكثر من عشرين مرة في اقل من ساعة، في أرض جرداء إلا من حوائط مهترئة من السعف الذي يتهاوى من أول زخة للسيل.
 تشكل المْعلمّة المحكّ الذي يمّر به كل أطفال الحارة مسويّة بذلك ما تبقى فيهم من عنجهية الطفولة وتمردها. كما أنها  أشد الأسلحة فعالية في تهديد الأمهات لأطفالهن الذين يتمنعون عن النوم بسهولة،  فيغفون- تحت ضغط التهديد- خوفا من أن  يتراءى لهم شبح المعلمة مويز وهي تهوي بعصا الزور على يديهم الغضّة أو تحدجهم بنظراتها الصارمة أو تلك الخفية التي ما فتئت المعلمة العجوز بإقناعهم بأن لديها عينان مركبتان في ظهرها ، فلا يخفى عليها من أمرهم شيء، تراهم حتى وهي مولية دبرها؛ لتزيدهم خوف فوق خوف منها.
 ولاريب في أن السويعات التي نقضيها تارة في حفظ قرآن لانفقه منه شيئا وتارة في مساعدتها - خلسة عن الوالدين- في أعمالها المنزلية،  أشد إيلاما من  الكي الذي يستعمله الشيخ في علاج مرضاه؛ إذ أن مويز بأسنانها المنفلجة و البدلة[1] التي منذ عرفتها وهي لم تفارق أنفها الأفطس،  طويلة القامة كثيرة الشحم، بليسو[2] أسود مغبّر وثياب تميل إلى الأخضر دائما بدوائر مبهرجة كانت مصدر رعب لكل أطفال الحارة وهي الشّر الذي لابد منه في حياة كل طفل (وبالغ لاحقا).
بالرغم من أنني كنت الأكثر كدحا في أعمالها المنزلية: أخض اللبن وأحمل أوانيها الصدئة إلى الفلج وأنظفها بليف النخيل الذي يحيل يدي إلى خصفة شديدة القسوة وظهري كالعرجون القديم، إلا أنها كانت أول من وشى بي. لم يشفع لي عندها كدحي ولا صبري على تسلطّها المقيت؛ إذ كان من واجبات المْعلمّة - بالإضافة إلى التعليم غير الممنهج واستعمالنا لقضاء حوائجها- هو أن تكون عين علينا؛ فهي لسان القرية الذي الذي لايفتئ أن يلوك أسرارك وقصصك إلى جميع الجيران والحواري المجاورة وأكاد أجزم أنها أكثر تفانيا في نشر  الأخبار أكثر من الراديونفسه. وبإضافات تجعل من الذنب البريء سبعا موبقات.
 أما في المنزل فالأب كان بلحية طويلة كثة شديدة السواد كأنها الليل في دهماءه وعينين غائرتين زادهما هالة الأثمد الذي يستعمله قبل النوم كل ليلة.
 كان مجلسه عامرا؛ فالسبلة يتجمع فيها أعيان القبيلة والضيوف وقلما من العرعروت مع الخبز الرقاق الذي تتناوب على صنعه زوجاته الأربع وبناته أما القهوة فوجودها شيء أساسي وخصوصا في بيت الشيخ فما من دليل على الكرم وحسن الضيافة أجلى منها.
 ومن عاداته أيضا - التي تفرضها عليه مكانته الإجتماعية-  تربية الأيتام والفقراء مقابل خدماتهم،  فهناك من يشتغل صبّي يصب القهوة لضيوفه ويقرب لهم الطعام والبقية يعملون بيادير في مزارعه الكثيرة ويقضون حوائج الشيخ وأقربهم فقط يكون ساعده الأيمن وبئر اسراره. رزق أبي بعشر بنات وولدين، مات خمسة منهم ليبقى له سبع بنات يعايره بهن الأعداء وأولئك الذين يريدون أن يقدموا بناتهم قرابين للشيخ لعلها تكون المبشرة بالشيخ الجديد


[1] قطعة غالبا تكون من الذهب استمدت من الثقافة الهنية توضع على الأنف
[2] الاسم المحلي لغطاء الرأس

Thursday, December 10, 2015

صفر درجة سيليزية

"
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ ."
يعتقد بدر السياب أن سماؤه تبكي بدموع تبشّر بالخصب طالما أنه "ما مّر عام والعراق ليس فيه جوع" وتعتقد التُركية الكاتبة إليف أن السماء تبصق علينا لعناتها.
مطر..مطر..مطر
أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟
يبدو المطر شيئا حالما لاولئك الغارقين في الرومانسية بينما يبدو لي صاخب مهيّج كما الحكّة على جرحٍ قديم، أقبع في الغرفة بمفردي في بلد تصل فيه الحرارة بأدنى سوالب الآحاد، أراقب الآخرين وهم يستعدون للكريسمس، أقضم قلبي.
أشتاقك، متى مّت؟
٢٣/١٢/٢٠١٣
هكذا تقول الأوراق الثبوتية، لكني -وتعرفني جيدا فيما يتعلق بالاقتناع- لا أصدق، ستعود. لابد أن تعود!
أكره الغربة، بت أكرهها وهي الأخرى لا بد أنها تكرهني.
يحسدنا أولئك الذين يدرسون في كنف بلدانهم ويعودون لأحضان والديهم متى أرادوا. رجاءً - وپليز كما تحبوها-  خذوا البرد والثلج والكريسمس و اعطوني لمة الأهل على عشاء غير شهّي وأطفال يشاغبون فلا تهنأ بلقمة.
كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
قلبّت ديوانا استعرته من مكتبة المدرسة لبدر السيّاب، كنتُ- كعادة المراهقة إذ يعجبها شيئا- أظن أنه كتب لي، كل قصائده لي.
لم يرقني الديوان ولم أخرج من بدر سوى بأنشودة المطر في كتاب الثاني عشر
ومقطعٌ وُضع لنعربه في الصف العاشر:
"انتصف الليل ، فاطو الكتاب 
عن الريح و الشمعة الخابية
فعيناك لا تقرآن السطور 
و لكنها العلة الواهية
فأنت ترى مقلتيها هناك 
و ذكرى من الليلة الماضية
فتطوي على ركبتيك الكتاب 
و ترنو إلى الأنجم النائية"

يؤجج هذا الشتاء الحنين، ولأنك أمضيت في الغربة أكثر من ثلاث سنوات لا يُتوقع منك أن تتصل خمس مرّات في اليوم؛ إلا إن كنت ستموت في مساء اليوم.
كالحب، كالأطفال كالموتى-هو المطر!
أكره الكُنز الصوفيّة، وتصيبني بالحكّة.
أكره الاختبارات لأنه ما صار عندي أحد يوعدني إنه نقضي الإجازة كلها سهر.
والله كل يوم أسهر، متى تجي؟


فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ