"عند آذان العصر
مباشرة"، هكذا كان موعدنا تماما. نتحيّن وقت خروج أبوَينا للصلاة وانغطاط
الأمهات في نوم الظهيرة اللذيذ بعد صباح مضن مع عشرة أطفال برغبات متبانية وزوج
يزمجر إذا ما عاد والغداء لم يجهز بعد. كنت قد انغمست طويلا في كتاب "حول
العالم في 200 يوم" لأنيس منصور والذي سرقته (إلى جانب خردوات أخرى، من شقة
صديقك المصري) كنت تتعلّل بأنه "يهديني لأنه بيسافر خلاص". وكنت أعلم
إنك كاذب لأن علبة الزعتر وأقلام التلوين وهذا الكتاب لايشكل فارقا في وزن الحقيبة
ولأن هداياه بدأت تتزايد بالرغم من أن علاقتكما كانت لاتعلو على أنك تستخدمه لحل
واجباتك المدرسية إذ أنه يسكن بيت والدك الإيجار. أخذت الكتاب منك لأنك "مش
بتاع الحركات دي" رافعا أنفك بسبابتك اليمين وشادا عينيك ببنصر وسبابة اليد
اليسار؛ مقلدا "محمود المصري" كما تعارفنا عليه، وألصق وطنه كقبيلة له
رغم أنه لا محمود غيره. أخذني الكتاب إلى عوالم لم أكن أحلم بها وسرق أنيس منصور
كل الأضواء النجومية التي كنت قد منحتها لكذباتك عن بطولاتك الخارقة في تغلبك على
"شلة" أثناء مشاجراتك المتعددة والأصدقاء الوهميين الذين رغم قصصهم
والتي توحي بأنك لاتغادرهم أبدا، إلا أنك نادرا ما كنت أراك متأبطا صديق.
في ساعاتنا المضنية، بدأت أتشدق عليك
بمعلوماتي الجغرافية وثقافتي الواسعة ، دائما ابدأ فقرة التفاخر بـ "تخيّل
بسّ!" لتباغتني بعد أن مللت حركتي بـ "مابغى أتخيل، سكتي". لم أكن
أسكت بطبيعة الحال وكنت أسهب –كاذبة- في "تبهير" التفاصيل على حد تعبيرك
لتغدو أكثر إبهارا لطفلين لم يتجاوزا حدود قريتهما النائية إلا لماما إما لشراء
حاجات العيد أو زيارة "الدختر".
كنت تصلح عجلة دراجتك الهوائية (ربما
سرقتها؟) قلت لك في خضم استعراضي لمعلوماتي ونكاية بك، "تخيل بس! أنيس منصور
ما يحب بهارات الهند. أنا دايما على الغداء أحط داغوص حار. يوم أشتغل بسافر الهند
وباكل من أكلهم وبشل معي داغوص عشان أزيده بعد!". كنت أعرف أن بيتكم لا يضع
البهارات في طعامه بسبب أبوك الذي تضغط شحومه على قلبه فتهدده بالموت إن لم يمتنع
عن الملح والتوابل. رمقتني بتلك النظرة، التي تسبق مشروع سرقاتك المتسلسل، خبث
تشوبه براءة. قلت دون أن تنظر لعيني " وليش تنتظري لين تشتغلي؟ ترا شيء مطعم
يسوي أكل حااار وأتحداك تقدري تاكليه". رددت ويدي على خصري" والله أكله
كله. حتى جرب وجيبلي منه". تركت تصليح عجلتك هذه المرة، ورفعت عيناك، لتلتقي
تماما بعيني، وأردفت مصمما " إذا تبغي جيبي ثمان مية وبوديك باكر بالسيكل"
شهقت وتحولت النظرة المتحدية إلى نظرة لاتصدق
جنون الذي أمامها قلت مذعورة وأنا التي أوهمت أمي أنني أنعم بنومة الظهيرة"
يااا غبي، أمي مابتخليني، هي قالت أصلا:" إذا عيني شافتك مع خلّود
ياويلك". "وياويلك" بلغة
الأمهات أشد فتكا من المسدسّات التي نراها في الأفلام، فهذا يعني إزاحة الستار عن
الفضائح التي كانت مخبأة عن الأب، ويعني أن أخطائك لن تنسى أبد الدهر، ويعني أن
الجارات سيساهمن في ردعك وازدراءك متى تطلّب الأمر.
وهذا كله لم يثنيك، بل ورددت مقلدا صوتي في
الحديث" ياااغبية أمك ما بتعرف، المطعم يفتح عند أذآن العصر، أبوك بيروح يصلي
وأمك نايمة، بناخذ سمبوسة ومال بطاطس وبنرجع، خوااافة". وافقت لإثبات أني عكس
السبّة الأخيرة ولأن غيمة نبتت على رأسي وتخيلتني أنيس منصور، حاملا حقيبته –التي ما
فتئ يغيرها- منتقلا من بلد إلى آخر، ممتدحا هذا الطعام ومنتقدا للآخر.
في ذلك المساء، بدأت أحس بأن روحي غدت خفيفة،
وغيمتي سقتها مخليتي الواسعة لتغدو أكبر فأكبر. أرشدني خالد- محترف الكذب والسرقات-
بأن أخبر والدي أن معلمة الفنية قد طلبت منّا ريال حتى تشتري لنا أدوات المشروع،
"والميتين؟" سألتك محتارة لأنك قد أمرتني سابقا بإحضا ثمانمئة بيسة، قلت
مبتسما " للسوّاق". دائما تعرف من أين تؤكل الكتف ودائما كنت أعرف إنك
كاذب، لكنني أصدقك.
خبأت الريال بالطريقة نفسها التي تخبئ بها
جدتي نقودها، ربطتّه بحافة طرف شيلتي المدرسيّة حتى يغدو أمام عيني طول النهار. بالرغم
من أنني صرت أضحوكة لبنات المدرسة واللقب الجديد الذي استحدثنه لي
"حبّوة" إلا أنني كنت أنظر إليهن كمن على حافة الإنتحار، لا يأبه لشيء
طالما أن ما يرتجيه سوف يحدث بعد سويعات قليلة.
انتظرت الأذان هذه المرة لأتسلل كالعادة من
مخدعي بعد أن تأكدت أن والدي قد غادر المنزل للصلاة والبقية يغطون في نومهم، وبدون
أن يلحظني أحد، تسلقّت خِفية جدارنا الملاصق لبيتكم- لما في فتح باب البيت من
مخاطرة كبيرة، المزلاج الصدئ أولها- لأرمي نفسي في السكة حيث كان لقاءنا
الدائم. وجدتك هناك محضرا دراجتك بصوتها الذي يشبه الزعيق.
بدون أن أنبس ببنت شفة، تسلقت المقعد الخلفي
لدراجتك بعد أن سلمتّك الريال، وقلت بهمس متوسّل:" خلّود ما نطوّل
وعّد؟". حدجتني ناهرا " إذا بتجلسي طول الطريق تلعي كذا، نزلي من
تو". خفت لأول مرة من غضبك، أو ربما لأنك فقأت غيمتي المتحمسة بصوتك الذي
بدأت تظهر عليه خشونة مزعجة وقميص ينفث برائحة العرق الصبياني. تقبضت بخصرك بعد
أن سمحت لدمعة واحدة أن تسقط فيتلقفها الهواء.
كان المكان بعيدا جدا، أو هكذا بدا
لي لمّا تخيلت أن يعود أبي من الصلاة وتستيقظ أمي وأخوتي فلا يجدوني، فيستغيث أبي
بالشرطة ورجال الحي ليبحثوا عنّا، فيكتشفون أن خالدا أيضا غير موجود، فيعتقدون ،أسوة
بالأفلام، أننا هربنا لنعيش قصة حبنا معًا بعد أن رفض والدي تزويجنا.
لكنك كعادتك في إزعاج الآخرين، تمّر مهرولا
على صخرة لترتفع الدراجة مؤذنة بسقوطنا لولا خبرتك في القيادة. تزعجني رائحة قميصك
الملاصق، أشتمك وأحدث نفسي" من تبغى تتزوج حرامي ما يتسبّح؟ أصلا أنا حتى صف
السابع ما وصلت". وهو الصف الذي انتشر في قريتنا الإيذان ببدء الفتيات بالانسلال من
مقاعد الدراسة إلى أعشاش الزوجية.
ومرة أخرى، تعمدت الضغط على جرس دراجتك المزعج محتفلا
بوصولنا إلى المكان الضيق الذي أقرب إلى أن يكون ملجأ للهنود الفارين من أربابهم
على أن يكون "مطعم".
قلت بصوت الرجل الواثق " أنتظري هنا، تو
بجي" كان المكان يعج بالهنود والرجال الكثيرين الذين حذرتني أمي مرارا من أن
أتفرد بهم وألا ألبي لهم أي دعوة مهما بدت بريئة، تشبثت بقميصك الذي كنت أشتم رائحته
قبل قليل وقلت" أخاف بجي معك". ربما قد بدأ خوفي لك حقيقيا فوافقت دون
أن تناقش أو ربما كنت قد ندمت على توبيخك القاسي لي في مطلع الرحلة فوجدتها
(كعادتك في استغلال الفرص لصالحك) فرصة من أجل أن أغفرلك.
صحبتني إلى الغرفة الرئيسية حيث الهندي
العجوز والذي أكتفى بقميص لايغطي كتفيه وإزار يشبه كثيرا الذي يلبسه والدي تحت
ثيابه. ازدريت أن آكل من يده إلا أن لعابي قد سآل حيث فاحت رائحة التوابل المقلية
في الزيت. وجدت أن أغلب الطعام الهندي يتكون
من بطاطا غالبا وبهارات وطحين، اخترنا سمبوستي بطاطس منتفختان، وشيء عرفت
لاحقا أن يشبه الفلافل إلا أنه يحتوي بدلا من الفول بطاطس مهروسة مغطاة بلحم أو
خضار حسب الطلب، طلبنا واحدة خضرة وواحدة لحم (على أن يأكل كل منا النصف) ليغدو
حسابنا بأربعمية بيسة حدجتك بنظرة مستغربة لأنه بدا واضحا أنك زبون دائم لدي سامير
الهندي. ليرد اللص المتمرد الذي بداخلك " أنا قايل إنه الباقي للسواق، يعني
أنا".
تنبهت إلى مرور عدد من السيارات مما يعني أن
الصلاة قد انتهت، صرخت بعد أن طفر سيل من الدموع هذه المرة" خلوود رجعوا من
الصلاة يلا نرووح". دقائق خلتها أقل من طريق الذهاب وصوت الكيس يخشخش في يدي
حتى وصلنا إلى السكة التي إنطلقنا منها.
يدك متسخة من تراب الأرض التي كنت تحفرها قبل
مجيئ وأثر الزيت الأسود الذي طبع في يدك إثر عمليات إصلاحك لدراجتك، أنت تمسك
"مال بطاطس" لتقسمها قسمين، لنذوق نتاج مشاريعنا الخفية لأول مرة ، لكن
فجأة يتبادر إلى أذنينا الصوت المزمجر، حاملا مكنسة التنظيف.