Thursday, February 18, 2016

حسيس الوق (2)


 ومن عاداته أيضا - التي تفرضها عليه مكانته الإجتماعية-  تربية الأيتام والفقراء مقابل خدماتهم،  فهناك من يشتغل صبّي يصب القهوة لضيوفه ويقرب لهم الطعام والبقية يعملون بيادير في مزارعه الكثيرة ويقضون حوائج الشيخ وأقربهم فقط يكون ساعده الأيمن وبئر اسراره. رزق أبي بعشر بنات وولدين، مات خمسة منهم ليبقى له سبع بنات يعايره بهن الأعداء وأولئك الذين يريدون أن يقدموا بناتهم قرابين للشيخ لعلها تكون المبشرة بالشيخ الجديد.

 أمي هي آخر زوجات أبي الأربع والمدللة الأثيرة التي تثير غيرة بقية نساءه, وأنا بدوري ابنتها الوحيدة بعد ولدين غيبتهما الحمّى التي لم يردعها اللعاب الذي نفثه المطوع سهيل ولا الحجاب الذي طوّق به رقبتهما. فآتى ملك الموت على حين غرّة ليخطف قطعتين من قلب أبي وأمله في ابن يحمل اسمه بعد موته.

كان عضيد أبي التجاري و أحد أكبر أثرياء الحارة. فقد كان يملك مولدا كهربائيا يمّد أغلب بيوت مترفي القرية بالكهرباء لتنار منازلهم ليلا بالمصابيح الكهربائية بدلا من الفنر. بل ووصل الثراء إلى حد امتلاك صندوق بشاشة زجاجية يدعى التلفاز يطوف بنا إلى العالم فنرى أخبار حرب مصر والانتصارات العربية الساحقة التي يتبعها تكبير أبي والجموع الملتفة حول الشاشة.

ونظرا لشدة طلب الناس وتوافدهم على منزل العم- المطوّع سهيل،  خصص التلفاز ليكون نهارا للنساء والأطفال وفي الليل  يجتمع كبار رجالات الحارة ومترفيها متحلقين حول هذه الشاشة. ليغدو بيته متنفسا ثان –بعد مجلس أبي- لكل أفراد الحارة.

بلغ العم سهيل من الجاه والثراء مبلغا كبيرا  وكان منفتحا على العالم نظرا لسفراته المتعددة لجلب البضائع،  فكان أول من أرسل ابنه إلى المدرسة الوحيدة في المدينة التي تبعد أميالا كثيرة عنّا. حيث يصورون لنا مباني الطوب التي لا يهدمها السيل ونساء خرجن من بيوتهن إلى المدارس ورجالا حلقوا اللحى واستبدلوا الغترة والعصا بكمة تطوق رؤوسهم وأقلام يحملونها في أيديهم ويعلقونها في جيوبهم.

منذ أن كنت في العاشرة  قرر أبي والعم سهيل – في سبيل توطيد العلاقات التجارية- أن يزوجوني لمحمد أكبر أبناء العم سهيل والذي يكبرني بخمس سنين. وحيث أن البنت لا تمكث في بيت أبيها إلا لعلّة فيها لأن " الحرمة حالها[1] الستر" كما يعلل الآباء تزويج بناتهم ما دون الثانية عشر أحيانا ( تخلصا من أعباء الصرف عليها وسترا لها ولأسرتها) غضب أبي غضبا شديدا بقرار محمد – بمباركه أبيه- بإكمال الدراسة في الكويت  . فكان الأمر عصيّا على والدي إذ أن إكمال محمد لدراسته في الخارج يعني أن أمكث عنده سنين طويلة بلا زوج مما يتيح للألسن التكلم على بنت الشيخ ومن ناحية أخرى فكثيرا ما تغير الحواضر والدول الخارجية ذوق الأبناء فيقلبون لبنات قريتهم ظهر المجن وغالبا ما يأتون بزوجة جديدة من البلد الذي سافروا إليه أصلا. وإذا غضب الشيخ هذا يعني أن عائلة أكبر تاجر في القرية مهددة بإزدراء حاشية الشيخ وكل أتباعه. فما كان من العم سهيل إلا المسارعة بإرضاء أبي وإيجاد حلا وسط.
تمخضّت المشاورات العديدة عن عدة قرارت من أهمها – إلى جانب بقاء العلاقات التجارية كما هي- أن يتم تزويجي من محمد في الصيف الذي يسبق سفره إلى الكويت سدا للألسن وضمانا بعدم إمكانية التراجع في السنتين التي سيقضيها هناك.


[1] كلمة محلية تعني :"لها".

Tuesday, February 16, 2016

قلم عقيم

تتماهى الأشياء أمام عيني،تتراءى لي رسالة سارة المُختصرة والتي لاتشي بعلاقتنا السطحية:"إذا ما في أحد قد قلك، ترا كتابتك حلوة" فتخبو روحي، أراجع الإطراء الضمني الذي صيرنّي مدعاة غيرة الزملاء إذ حال بين المحرّرة وبين مقالاتي فتضعها كما كتبتها دون تعديل-كما تفعل مع بقيّة الزملاء ولا أُشفى.
نّص كامل غير مبتور، صديقة (في الحقيقة هناك أكثر من واحدة) يروقها أن ارسل لها آخر ما نشرت لتزودنّي بانطباعات صديقاتها الأخريات، لكننّي - يا إلهي- اُحاوِل، كسيدّة على مشارف الأربعين لاتكّف عن زيارات العيادات النسائية؛ طمعًا في كلمة ماما.
حروفي كأغاني الفلاحين، تسير في الفضاء، تشي بالتعب الجماعي. حروفي آهات منمقّة.
اصر على أسناني أقول لرأسي "سيكون مثاليا" أقضي أسبوعين في كتابته، أجده مهترئا بمواطن جمال تكاد تكون معدومة.
لماذا إن كنت ستنزعها منّي، قد منحتني يا إلهي مِنحة الكتابة؟
يدي ستصدأ يُنهكها الضجر، رأسي محشو بجمل تسبح في فضاءه، أريد أن اكتب! كما ادعّت العجوز الآم المخاض علهّا تنجح فتلد، رأسي ممتلىء وبطنها خاوٍ.

Monday, February 15, 2016

حسيس الورق (1)

عشر ضربات يزرّق لها جلدي وجلَدي هي الجزاء الذي أناله بعد أي تلكؤ في ترديد سورة "عمّا" التي نرددها أكثر من عشرين مرة في اقل من ساعة، في أرض جرداء إلا من حوائط مهترئة من السعف الذي يتهاوى من أول زخة للسيل.
 تشكل المْعلمّة المحكّ الذي يمّر به كل أطفال الحارة مسويّة بذلك ما تبقى فيهم من عنجهية الطفولة وتمردها. كما أنها  أشد الأسلحة فعالية في تهديد الأمهات لأطفالهن الذين يتمنعون عن النوم بسهولة،  فيغفون- تحت ضغط التهديد- خوفا من أن  يتراءى لهم شبح المعلمة مويز وهي تهوي بعصا الزور على يديهم الغضّة أو تحدجهم بنظراتها الصارمة أو تلك الخفية التي ما فتئت المعلمة العجوز بإقناعهم بأن لديها عينان مركبتان في ظهرها ، فلا يخفى عليها من أمرهم شيء، تراهم حتى وهي مولية دبرها؛ لتزيدهم خوف فوق خوف منها.
 ولاريب في أن السويعات التي نقضيها تارة في حفظ قرآن لانفقه منه شيئا وتارة في مساعدتها - خلسة عن الوالدين- في أعمالها المنزلية،  أشد إيلاما من  الكي الذي يستعمله الشيخ في علاج مرضاه؛ إذ أن مويز بأسنانها المنفلجة و البدلة[1] التي منذ عرفتها وهي لم تفارق أنفها الأفطس،  طويلة القامة كثيرة الشحم، بليسو[2] أسود مغبّر وثياب تميل إلى الأخضر دائما بدوائر مبهرجة كانت مصدر رعب لكل أطفال الحارة وهي الشّر الذي لابد منه في حياة كل طفل (وبالغ لاحقا).
بالرغم من أنني كنت الأكثر كدحا في أعمالها المنزلية: أخض اللبن وأحمل أوانيها الصدئة إلى الفلج وأنظفها بليف النخيل الذي يحيل يدي إلى خصفة شديدة القسوة وظهري كالعرجون القديم، إلا أنها كانت أول من وشى بي. لم يشفع لي عندها كدحي ولا صبري على تسلطّها المقيت؛ إذ كان من واجبات المْعلمّة - بالإضافة إلى التعليم غير الممنهج واستعمالنا لقضاء حوائجها- هو أن تكون عين علينا؛ فهي لسان القرية الذي الذي لايفتئ أن يلوك أسرارك وقصصك إلى جميع الجيران والحواري المجاورة وأكاد أجزم أنها أكثر تفانيا في نشر  الأخبار أكثر من الراديونفسه. وبإضافات تجعل من الذنب البريء سبعا موبقات.
 أما في المنزل فالأب كان بلحية طويلة كثة شديدة السواد كأنها الليل في دهماءه وعينين غائرتين زادهما هالة الأثمد الذي يستعمله قبل النوم كل ليلة.
 كان مجلسه عامرا؛ فالسبلة يتجمع فيها أعيان القبيلة والضيوف وقلما من العرعروت مع الخبز الرقاق الذي تتناوب على صنعه زوجاته الأربع وبناته أما القهوة فوجودها شيء أساسي وخصوصا في بيت الشيخ فما من دليل على الكرم وحسن الضيافة أجلى منها.
 ومن عاداته أيضا - التي تفرضها عليه مكانته الإجتماعية-  تربية الأيتام والفقراء مقابل خدماتهم،  فهناك من يشتغل صبّي يصب القهوة لضيوفه ويقرب لهم الطعام والبقية يعملون بيادير في مزارعه الكثيرة ويقضون حوائج الشيخ وأقربهم فقط يكون ساعده الأيمن وبئر اسراره. رزق أبي بعشر بنات وولدين، مات خمسة منهم ليبقى له سبع بنات يعايره بهن الأعداء وأولئك الذين يريدون أن يقدموا بناتهم قرابين للشيخ لعلها تكون المبشرة بالشيخ الجديد


[1] قطعة غالبا تكون من الذهب استمدت من الثقافة الهنية توضع على الأنف
[2] الاسم المحلي لغطاء الرأس