جُلُّ محاولات صبّي في القالب باءت بالفشل، لم أكن الطفل الذي تحلم به الأسر المُترفة، فما بالك بالأسر التي بالكاد تجُد ما تسكت به جوعها؟
لم أكن طفلا خارقا للعادة ولم أكن طفلا عاديّا، كنت أحمق. الطفل الذي حتى ببلوغه العشرين يثير دهشته كل شيء ويرغب بتفسير كل شيء. بداية بالأسئلة التي يهرب الآباء من إجابتها، مع أنها سهلة، لكنها غير قابلة للشرح.
" كيف جئت؟" أكثر الأسئلة الواقعية والمُخيفة لمجتمع تعوّد أن يُلجم السائل.
كنتُ سريعُ الفهم حاذق المعرفة لكنني أحمق، تخبرني معلمّة الإسلامية أن اذهب بكيس أسود يحتوي على ما طاب ولّذ من الحلويات لبيعه- وهو أمر يثير غضب المديرة- لتوشوش في أذني أن أقول أنها أرسلتني لوضعه في غرفتها في حال قابلت المديرة، "لكنه كذب، والكذب حرام يودي بك في جهنم" سؤال ينّز في رأسي فأخرِسه خشية خسران أرفع المهمّات: القيام بأعمال المعلمّة.
كنت لا أبكي، صلابة لا أدري كيف يكتسبها طفل السابعة، حتى حينما تدحرجت إثر دفع صديق لثلاثة أمتار ليرتطم رأسي بالعامود الحديديّ لم أبكي. كانت الدموع تُشكّل عينا مائية قابلة للإنفجار في أي لحظة ، لكني لم أبكي، خفتُ من سخرية الأطفال- وهي أشّد مضاضة من وقع الحسام المهنّد-بلعتُ غصتّي وتظاهرت بأنه أمر مضحك. كنتُ ذلك النوع من الأطفال الذي يُصّر على معلّم العلوم بأنه يرى الهواء رأي العين ضاربا بكّل النظريّات الفيزيائية عرض الحائط، فيقنعه المعلّم مرتين بالقول اللين والثالثة يهددّه بالطرد إن لم يتكتّم على نظريته المهرطقة. اكتشف الطفل بعد ٩ سنوات أنّه يعاني من نقص نظر فيرى الناس تحيطهم هالة من الضبابية خالها يوما هواء يُرى.
لم تكن المراهقة أفضلُ حالا، لم يحصل على لاعب مفضّل يقاتِل الجموع من أجله ولا حتّى فريق يضحّي بنومه من أجل مباراته النهائية، كان كئيبا لمن حوله يقضي يومه إما فالمذاكرة وإما مبحلقا في شاشة حاسبه الآلي، كان المُراهق الذي يأخذ واجبات أصدقائه ليستمتع بحلهّا لهم في حجرته، ناسيا أنّه كان يمثل لهم المتفوّق الأحمق وكانوا يمثلون له الأغنياء الأغبياء.